Thursday 10 July 2008

مقالة من الرأي الثقافي

حميد سعيد - في أواسط السبعينيات، قدَّم أكاديمي فرنسي، محاضرة في مدينة غرناطة، وكان المحاضر، من وثنيي المركزية الغربية، التي تتحرك برأسين، عنصري وصهيوني.يومها، قدَّم أطروحة عن المرحلة الأندلسية في تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية، قائلاً: إن تأسيس الكيان الاندلسي، كان نتيجة انشقاق داخلي، وإن العرب المسلمين، لم يكن لهم مايمكن أن يُعدَّ دوراً حاسماً في تأسيس ذلك الكيان.وقال أيضاً..إن الاندلسيين المعاصرين، لاعلاقة لهم بأندلسيي المرحلة العربية، فإن كان ثمة بقايا منهم، فيفترض وجودهم في منطقة بلنسية.إن المقولة الثانية، يمكن التعامل معها، في ضوء معطيات التهجير، الذي تعرَّض له الاندلسيون من عرب مسلمين او من إسبان أسلموا أو تعربوا، وبفعل صرامة محاكم التفتيش.إلا، ان الحاضرين من الإسبان، وفيهم أكاديميون مستعربون، رفضوا المقولتين وفنّدوا ماجاء فيهما، وكان الغرناطيون، اكثر حماسةً في رفض المقولة الثانية، وجاء رد رئيس بلدية غرناطة عاصفاً، وكأنه يرد على شتيمةٍ نابية لحقت به، وبرعيته.إن من يتعايش مع الأندلسيين المعاصرين، لابد أن يكتشف خصوصياتهم، التي تمتدُ بعيداً في الخصوصية الأندلسية وثقافتها، التي هي نتاج تعددية ثقافية واجتماعية، يوم كانت، كما يقول خوان غويتيسولو: ملتقى لجميع التيارات الثقافية، الشرقية والغربية، بفضل انفتاحها المزدوج، على الثقافة الجنينية آنذاك، للشمال، المنقولة عن القديس جاك دوكو مبوستيل وعلى الثقافة العربية الغنية بترجماتها عن الاغريق والهند وفارس .غير أن هذه الخصوصية الاندلسية، نجدها كذلك في المدن المغاربية، التي انشأها المهجرون الاندلسيون أو أقاموا فيها، كما هو الحال في مدن فاس وتطوان وسلا، حيث تظهر هذه الخصوصية حتى الآن، في أساليب العيش، واللهجة والموسيقى والغناء والأزياء والحنين.ومما لفت نظري، إن المجتمع الاندلسي المعاصر، وامتداده في المجتمعات المغاربية، مازالا يتشبثان بإرثهما التاريخي، ويشكل لهم مصدر فخرٍ وإحساس بالتميز.كان غارثيا لوركا، الفتى، يقف في أحد ميادين غرناطة، ويمرُّ موكب ديني محتفلاً بذكرى نهاية الحكم العربي الإسلامي فيها..فيهتف لوركا: مهما فعلتم ستبقى غرناطة عربية! ويذهب البعض من مؤرخي الأدب، الى ان هتافه هذا، كان بداية تمرده الذي سينتهي به، بعد حين، الى الإغتيال.وحين يسأل يوماً عن رأيهِ في سقوط غرناطة يجيب: كانت نكبة على الرغم من أنهم يلقوننا العكس في المدارس، حضارة رائعة، وشعر، وفلك، وعمران، ورقة شعور فريدة في العالم، ضاعت كلّها، لتقوم محلها مدينة فقيرة ولطالما رددَّ بأسى: لقد أحرق الكاردينال، خيمينيث دي شتيروس، في ساحة برج السهر، فقط، ثمانين ألف مخطوط عربي وإذ يواصل لوركا، تذكر الحكايات العربية الأندلسية، فنجد صداها في قصائده وأغنياته ومسرحياته، وعلى سبيل المثال، إن مسرحية بيت برناردا ألبا ، صدى لحكاية عربية أندلسية، وأن تلك الحكايات، تحكيها الجدات الإسبانيات لأحفادهن، وفي الوقت ذاته، تحكيها الجدات المغاربيات لأحفادهن.ومازلت، كلما قرأت أندلسيات الشاعر مانويل متشادو ، أقرأ فيها صدى أندلسيات الشعراء العرب في الأندلس، ممن أدركوا مرحلة التراجع والإنكسار.وإذا كان الشعراء، هم الأعمق تعبيراً عن أحاسيس الناس، فلابد من وقفةٍ، لاكتشاف معنى، أن يكتب خوان رامون خيمينيث بكائية جنة العريف، وأن يصل رافائيل البرتي الى غرناطة في ثمانينيات القرن العشرين، فيتذكر الأغنية الشعبية الأندلسية.. ويغنيها: كان الملك العربي يتجوَّل في دروب مدينة غرناطة من بوابة البيرا حتى بوابة باب الرملة أو أن تواصل المغنية الغجرية الأندلسية .. الى ايامنا هذه، ترديد أغنية: أنا عربية سمراء .. وإسمي فاطمةْ وعن هذه الظاهرة الأندلسية الفريدة حقاً، ولا أدري إن كنت أبالغ حين أقول..إنها لم تتكرر من قبل، يعبر خوان غويتيسولو، في حديثه عن العربي الاندلسي في المتخيل الإسباني، الذي ظلَّ طيله عشرة قرون، يغذي أساطير الإسبان وأعمالهم الخيالية ويشكل مصدر إلهام ل قصائدنا وأغانينا، وشخصية محورية لرواياتنا ومآسينا، منعشاً بقوة، آواليات الخيال الإسباني .وهنا أتساءل، ألم يكن جرتورد شتاين محقاً حين قال: حك جلدا إسبانيا، وستجد مسلماً ، إن الأندلس، ليس مجرد جغرافية، أو إقليم له خصوصياته، أو حضارة، كانت ثمَّ بادت، إنه مخيلة، مازالت تعمل، وبهذا قال ماركيز حين تحدَّث عن مكونات الثقافة في القارة اللاتينية.وإذ كنت قد تحدَّثت عن الثقافة الاندلسية، في محيط التأثير، وهو محيط للتأثر أيضاً، فأنني شديد القرب من رؤية كلود ليفي شتراوس بشأن تبادل التأثير، حين يكون المهاد الحيوي، لمثل هذا التبادل حال عدم التماثل بين الثقافات، فيكون التحرك عبر عملية محاكاة متبادلة أو متقابلة، حيث تلتقي وتحفز بعضها بعضاً .* كاتب عراقي مقيم في الاردن

No comments: