Friday 4 July 2008

شيئ من رحلة






أجلس على طرف السرير، منتصف الظهيرة، وأسمع زعاق بياتريز في الأعلى ، يأتي ساعي البريد وتناديني بياتريز بأن ربما هناك رسالة لي، فالساعي يسأل عن (سعدي) وطبعاً (عبد الحق) شبيه جداً بذا الاسم، شعرت بالغثيان


بدأت بياتريز حملة تنظيف الشقة حوالي العاشرة، وقد استعضت عن حمامي اليومي بشمشمة روائح الصابون وطقطقة الأواني في المجلى وطبعاً توقعت أننا سنتحدث عن ما هب ودب هذا الصباح، وهذا ما حدث فعلاً...لكنني أحب تواجدها في الشقة، أقوي اسبانيتي، أتعلم كل يوم شيئاً جديداً عن سوق شعبي هنا أو هناك ، وربما تنزل لي صحناً من الشوربة
الأندلسية الأصيلة

عدت إلى غرناطة بعد غيبة ليست بطويلة، خمسة أيام في ايطاليا بصحبة رافاييلا، صديقة تعرفت عليها قبل أربعة أعوام في برنامج تبادل شبابي في النمسا، اتفقنا أن نلتقي في منتصف ميلان، تحت الساعة الرقمية...الحرارة والرطوبة كانتا مفاجأة غير سارة، شعرت بالدبق وصعوبة الحركة، أخذت عبثاً أبحث عن الماكدونالدز لأستعمل الحمام، نجحت في ذلك دون أن استرعي انتباه أحد


ميلان مدينة ضخمة، مدينة الموضة والأزياء، مدينة الجيلاتو والميلانيسا. شعرت فيها بصغر حجمي وقدرة فهمي لتفاصيلها اليومية، ولما جاءت رافاييلا انتزعتني من جو التفكير هذا. كم جميل أنا بقينا أصدقاءً! ، بعد أربعة أعوام، نلتقي في بقعة بالغة التحديد، نشعر ببعض القلق، نترقب، نتساءل، وتتسامى كل اضطرابات التفكير هذه بمجرد رؤيتنا لبعضنا، تشاو! تشاو


قالت لي أن هذه هي مدينة الشغيلة في ايطاليا، مدينة يعمل فيها الناس فقط، مدينة باهظة التكاليف، مختلفة عن الجنوب الايطالي، بجاداتها الواسعة و شبكة معقدة من الحافلات والترامات و شبكة الأنفاق الأرضية تشعر أنت كما الكترون خاطف في دارة كهربائية ، تسير مع التيار وتكمل دورة الحياة كيفما اتفق. لفتني وجود الكثير من العرب هنا وبالأخص من المصريين، لا أعرف كيف جاؤوا ولا ماذا يفعلون، ولكنني شعرت بشيئ من الدفئ لما نادي أحمد على حسن


ايطاليا، هي أول مرة لي هنا، كان حلماً وتحقق، كان تعليقي أن الناس هنا يبادرون بالحديث اليك، استغربت رافاييلا، فمن المعروف أن هذه مدينة الجمود والبرود في العلاقات، لكنني من حديث إلى حديث مع الميلانيين، فمن البائعة على الكاشيير التي تشير إلى حقيبة الظهر الممتلئة ، تسألني من أنا ومن أين جئت، إلى راكب المترو الذي نصحني بضرورة زيارة الدورمو وهي مركز ميلان، إلى السيدات طويلات العمر اللاتي سألنني إن كنت أبحث عن نزل الشباب، وقبل أن يسمعن الاجابة شرحن لي بالتفصيل أين يقع وأي حافلة استقل، شكرتهم كلهم بايطالية متلعثمة مشبعة بالاسبانية ولساني يقفز بين اللغات والحروف


بعد ميلان كانت بيرجامو، مدينة تبعد ساعة واحدة عن ميلان، استرعي انتباهي فوراً مدينة تطل من على مرتفع، هي ال (شيتا ألتا) المدينة العلوية، مركز المدينة القديم ودرته البعيدة عن ضجيج الحداثة، كان ذهابي إلى هناك بأسرع وقت واجباً في قسم الرحلات، استقلت الحافلة ذات الخط 3 التي حملتني إلى هناك، في الأعلى، حيث يقطن تاريخ وتروى حكايات...دخلت المدينة من بابها الجنوبي، قوس حجري وطريق معبد بالحجارة، نقطة الوصول كانت البلازا التي نسيت اسمها الآن! ولنسمها بلازا المركز، هناك، ساءني أني لم آت بصحبة أحد، فرافاييلا بعملاها في الراديو ولا أعرف أحداً غيرها، نظرت من حولي ولمحت شاباً في أواخر العشرين كما بدا لي،استقل معي الحافلة من النزل، ذهبت اليه وسألته بعض الأسئلة التي أعرف اجاباتها، ثم عرضت عليه أن نتجول معاً ! أحسست بنوع من الغرابة لكنني فعلاً لم أود أن أصطدم به في كل مكان دون أن أستفيد من وجوده. تجولنا في كل مكان، شربنا الاسبرسو وأكلنا الفروماجو (فطيرة جبن)، هو ذا أبوين من الأرجنتين ويعمل مقدماً إذاعياً في باريس في إحدى الاذاعات الشبابية، التقطنا بعض الصور، وودعنا بعضنا في اليوم التالي...كم جميلة صداقة الساعات، تنتهي كما بدأت، بغربة على غربة


في اليوم الثالث امتدت بي الحكاية إلى التعرف على الشابين اللذان يتحدثان لغة مفهومة وغيرمفهومة، بادراني بال "هولا" ولم أعرف لم افترضا أنني أتحدث الاسبانية، اتضح فيما بعد أنهما من كاتالونيا ويتحدثان بينهما بها، وهناك صديقاتهن الثلاث أيضاً ينتظرن في الخارج، وبعد أن تبين أن لدينا نفس الخطة بالذهاب إلى بحيرة كومو، رافقت هذه الشلة الكاتالونية إلى هناك، كان اسم محدثي (جوردينو)، تحدثنا طوال الساعتين من بيرجامو إلى البحيرة، عن كاتالونيا واسبانيا، عن المهاجرين، عن الأردن والعراق ولبنان، عن فلسطين وقضية الشرق

لأوسط، عن اللغة العربية، عن غرناطة...كم كثيرة هي المواضيع التي يمكن أن يتحدث بها اثنان إن ولدا في شرق المتوسط وغربه

بحيرة كومو شيئ ساحر، مليئة بالغابات والبيوت الفخمة على ضفافها، مليئة بالسياح، وقد قمنا نحن الستة بجولة على ظهر قارب سياحي في

البحيرة، أغرونا بأن الكابتن دليل سياحي، ولم أفهم من الايطالية الثقيلة التي تحدث بها غير أن هناك بعض المشاهير الذين يسكنون هنا، ذكر مادونا وكلوني والسعودية...مع حلول ساعات المساء بدأ مطر غزير بالتساقط، غزير بحيث ملئ الشوارع وأعاق المرور. لكنني أحب هذا المطر، مطر حزيران الغزير الذي لا تتوقع، كما ليقول أن هذا وقت غذاء البحيرة وفرراركم إلى غير مكان


كنت لأكتب أكثر، لكنني أؤثر الاحتفاظ ببعض التفاصيل. على كل حال، إن كانت طائرتك صباحية، فاشتر بعض الفواكه والبسكويت والعصير ، واذهب إلى مطار ميلان منتصف الليل، ابحث عن زاوية بعيدة، امدد حقيبة النوم، اضبط ساعة التوقيت، ونم قليلاً ، ستأتيك الأحلام مختلفة هذه المرة...

No comments: